بين النجاح والرضا: نحو فهم نفسي لقيمة الحياة المتوازنة

موند بريس / بقلم: دة. سعاد السبع

في خضم السباق المحموم نحو النجاح، يَغفل الكثيرون عن سؤال جوهري: هل نعيش ما نريد، أم نؤدي ما يُنتظر منّا؟ وهل النجاح الذي نبلغه هو ثمرة رغبتنا الأصيلة، أم أنه استجابة لاواعية لمعايير خارجية تمليها منظومة المجتمع؟
فبين النجاح كإنجاز والرضا كحالة وجودية داخلية تتحدد بوصلة الصحة النفسية، وتتأرجح كفّة الرفاه الوجداني.

النجاح الخارجي والرضا الداخلي: جدلية المفهوم والتأثير.

النجاح بمفهومه الاجتماعي السائد، غالبا ما يُقاس بالنتائج: شهادة، مركز، راتب، شهرة… وهو مفهوم يقوم في جوهره على تقدير الآخر لا إشباع الذات. إنه نجاح مرآوي يستمد شرعيته من نظرة الآخرين أكثر مما ينبع من شعور داخلي بالإنجاز. أما الرضا فهو تجربة سيكولوجية معيشة لا تُرى بالعين، بل تُحسّ بالقلب وتُعاش في صمت النفس. إنه ما يُسميه علماء النفس بـالرضا التكيفي (Adaptive Satisfaction) وهو القدرة على استبطان الشعور بالكفاية دون الحاجة لمصادقة خارجية.

الرضا النفسي: ركيزة الصحة النفسية لا رفاهية مزاجية.

من منظور علم النفس الإيجابي يُعتبر الرضا أحد أبرز مؤشرات الصحة النفسية السليمة، حيث يشير إلى توازن ثلاثي بين:

* القيم الذاتية التي تحكم اختيارات الفرد.
* الاحتياجات النفسية التي يبحث عن تلبيتها.
* المعتقدات المعرفية التي تُشكّل تصوّره عن الحياة والذات والعالم.
وقد أكد العالم النفسي مارتن سليغمان (Seligman) رائد مدرسة علم النفس الإيجابي أن الرضا لا ينفصل عن مفهومي “المعنى” و”الانخراط” في الحياة، إذ أن الإنسان الراضي ليس من يملك أكثر بل من يعيش بانسجام مع ذاته وتطلعاته ويجد لمعاناته معنى ولتجربته امتدادا.

الرضا لا يلغي الطموح… بل يؤطّره.

قد يُساء فهم الرضا كنوع من الاستكانة أو القناعة السلبية، في حين أن الرضا الحقيقي لا يُلغي الطموح، بل يُعيد تشكيله في قالب أكثر واقعية وإنسانية. الطموح تحت سقف الرضا هو طموح ناضج يُراعي إيقاع الحياة، ويُثمّن الكينونة لا فقط الأداء.
ففي ممارستنا الإكلينيكية، نرصد يوميا حالات لأشخاص حققوا “نجاحات” ملفتة، لكنهم يعيشون توترا وجوديا دائما، قلقا مزمنا وشعورا مبطّنا بالفراغ، لأن ما حققوه لم يكن بالضرورة نابعا من ذواتهم، بل مفروضا عليهم من الخارج. هؤلاء غالبا ما يعانون من ما يُعرف بـالاغتراب النفسي (Psychological Alienation)، حيث يصبح الإنسان غريبا عن نفسه، رغم أنه متألق في عيون الجميع.

المجتمع المُنجز… ومأزق الإنهاك النفسي.

نحن نعيش في مجتمعات تمجّد الإنجاز وتربط بين “القيمة الذاتية” و”الفاعلية الإنتاجية”، مما يخلق ضغطا نفسيا دائما، ويدفع الأفراد إلى مقارنة أنفسهم باستمرار، لا وفق احتياجاتهم، بل وفق مقاييس نمطية لا تراعي الفروق الفردية.
هذا الواقع يُسهم في بروز ما يسمى بـالنجاح المرهق (Toxic Success)، حيث يُصبح الإنجاز مصدرا للقلق بدل أن يكون مصدرا للرضا.

نحو مجتمع يُثمّن الرضا كقيمة نفسية راقية.

المطلوب اليوم ليس فقط إعادة تعريف النجاح، بل إعادة توزيع شرعية التقدير، بحيث لا يكون النجاح وحده مؤهلا لنيل الاحترام، بل أيضا الاستقرار النفسي والرضا الداخلي والسلام مع الذات.
فلنعلّم أبناءنا أن قيمة الإنسان لا تقاس فقط بما يملكه أو يحققه، بل أيضا بقدرته على الحب، العطاء، التعاطف وبحجم سكينته الداخلية.

في الختام…

الحياة المرضية ليست نقيضا للنجاح، بل هي صورته الناضجة. إنها الحياة التي تُصنع على مهل، بتصالح مع الذات، توازن في الرغبات وانسجام مع القيم.
هي حياة لا تحتاج إلى تصفيق الناس، بل إلى هدوء الروح وإيماءة رضا من القلب.

ولعل أبلغ ما يُختتم به هذا الطرح هو قول جلال الدين الرومي:
“دع كل العالم ينشغل بالصوت… واذهب لتسمع نغمة قلبك، هناك فقط ستعرف من أنت”

 

 

قم بكتابة اول تعليق

اترك رد